السؤال:
امرأة اعتقل زوجها ، وانقطعت أخباره من شهور طويلة، وقد وصلت معلومات عن قتله لكننا غير متأكدين من ذلك، فكيف تتصرف المرأة؟ وهل تعتبره متوفيًا؟ وإن لم تعرف مصيره فهل يجوز لها أن تطلب الطلاق؟ وهل لها أن تتزوج؟ وماذا لو رجع زوجها الأول بعد زواجها؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لا يجوز الحكم بوفاة أي شخص ثبتت حياته إلا إذا قامت البينة على ذلك، لكن "المفقود" له أحكام تخصه في الشريعة، وهذا تفصيلها:
أولاً: المفقود هو الشخص الذي غاب عن أهله وانقطعت أخباره، فلا يُدرى أحي هو أم ميت، ويشمل ذلك:
- من خرج من بيته أو سافر، وانقطعت أخباره تمامًا.
- الأسير الذي لا يعلم موضعه، ولا يمكن الاطلاع على أخباره.
- من فُقد خلال الحروب فلا يعلم حاله: أحيُّ هو أم ميت.
قال الإمام النووي –رحمه الله- في "روضة الطالبين": "فَالْمَفْقُودُ: الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَجُهِلَ حَالُهُ فِي سَفَرٍ، أَوْ حَضَرٍ، فِي قِتَالٍ، أَوْ عِنْدَ انْكِسَارِ سَفِينَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا... وَفِي مَعْنَاهُ: الْأَسِيرُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ".
ثانياً: الأصل في المفقود: الحياة، وانقطاع أخباره وإن كان يوجب شكًا في حياته، إلا أن هذا الشك لا يزيل اليقين، وهو حياته التي تيقنَّاها من قبل، والقاعدة الفقهية المقررة عند العلماء: "اليقين لا يزول بالشك".
ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا ببيِّنة واضحة، كخبر الثقات القائم على المشاهدة، سواء من رفقاء السجن، أو زملاء المعركة، ولا يُكتفى في هذا الباب بالظنون المجردة أو الأخبار المتناقلة.
وبناء عليه: فلا يجوز لورثة المفقود قسمة ماله، ولا لزوجته أن تتزوج إلا بعد أن يثبت موته ببينة شرعية، أو يصدر حكم من القاضي الشرعي بذلك.
ثالثاً: إن لم تحصل البينةُ على وفاة الزوج أو لم يصدر حكمٌ من القاضي بموته وتعجَّلت المرأة الزواج، فهذا النكاح باطل، ويجب عليها أن تنفصل عن زوجها الثاني فورًا.
قال ابن قدامة: " فأما الأنكحة الباطلة, كنكاح المرأة المزوَّجة أو المعتدة, أو شبهه, فإذا علما الحلَّ والتحريم, فهما زانيان, وعليهما الحد, ولا يلحق النسب فيه".
وقال أيضاً: "وإن كانا جاهلين بالعدة، أو بالتحريم، ثبت النسب، وانتفى الحد، ووجب المهر".
رابعاً: إذا طالت غيبة المفقود دون أن يعود إلى أهله، فلهم أن يرفعوا أمرهم للقاضي الشرعي الذي يُحدد مدةً للانتظار، فإن لم يرجع خلالها حكم القاضي بوفاته.
ونظراً لخلو المسألة من نص شرعي صحيح، فقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه المدة.
وأقرب الأقوال في المسألة: أنَّه يُرجع في ذلك للقاضي الشرعي في كلِّ بلدةٍ بحيث ينظر في كل قضية، ويحدِّد مدةً للتربص والانتظار يغلب على الظن موته بعدها، بحسب الظروف المحيطة بكل حادثة، والقرائن الملابسة لها؛ لأنَّ حال المفقود يختلف من مكان لآخر، وظروف الفقد تختلف من حالة لأخرى، فلكل واقعة أحوالها وظروفها التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار.
قال الزيلعي –رحمه الله- في "تبيين الحقائق" مبيناً المدة التي يُحكم بعدها بوفاة المفقود: "وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ [أي القاضي]؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَكَذَا غَلَبَةُ الظَّنِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ".
وقال الماوردي –رحمه الله- في "الحاوي": "وَأَمَّا الْمَفْقُودُ إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَوْتٌ وَلَا حَيَاةٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهَا، فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِمَوْتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّرَ ذلك بزمان محصور، وهذا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أبي حنيفة وَمَالِكٍ".
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية والعشرين المنعقدة بمكة المكرمة لعام (1434ه): "ويُترك تحديد المدة التي تنتظر للمفقود للقاضي، بحيث لا تقل عن سنة ولا تزيد على أربع سنوات من تاريخ فقده؛ ويستعين في ذلك بالوسائل المعاصرة في البحث والاتصال, ويراعي ظروف كل حالة وملابساتها, ويحكم بما يغلب على ظنه فيها". انتهى.
وإذا مضت المدة التي حددها القاضي للانتظار ولم يعثر له على أثر بعد بذل الوسع في البحث بمختلف الطرق، فإن القاضي يحكم حينئذ بوفاته، وتعتد بعدها امرأته عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، ويحل لها أن تتزوج، ولورثته اقتسام ماله.
ولا تترتب هذه الآثار إلا بعد حكم القاضي بوفاته.
خامسًا: من فُقد ولم يُعلم حاله، ثم تبينت وفاته بخبر مؤكد، فإنَّ عدة زوجته تكون من يوم وفاته، لا من يوم علمها بها.
وعليه، فإن لم تتأكد من خبر وفاته إلا بعد الأربعة أشهر وعشرة أيام: فلا عدة عليها.
قال ابن عبد البر –رحمه الله- في "التمهيد": "وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ تُحْسَبُ عِدَّتُهَا مِنْ سَاعَةِ طَلَاقِهَا أَوْ وَفَاةِ زَوْجِهَا".
سادسًا: من فُقد ولم يُحكَم بموته، أو عُلمت حياته ولكنه غاب عن زوجته فترةً طويلة لسفر أو سجن، بحيث ترتب على الزوجة أو أبنائها ضرر من هذا الغياب، إما لعدم تركه ما يكفيهم من النفقة، أو لخشيتها على نفسها من الفتنة، أو حاجتها لمن يقوم على شؤون الأسرة وتربية الأبناء، أو غير ذلك من وجوه الضرر.
فمن حقها -إن شاءت- المطالبة بفسخ النكاح لرفع الضرر، سواء كانت غيبته لعذر أم لا.
ففي ترك الزوجة أو العائلة ضرر معنوي ومادي ظاهر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)، ومن القواعد الفقهية المقرَّرة: "الضرر يزال".
وإزالة هذا الضرر لا تتم إلا بعودة الزوج أو التفريق بينهما.
جاء في "الموسوعة الفقهية" :"ذهب المالكية إلى جواز التفريق على المحبوس إذا طلبت زوجته ذلك وادعت الضرر، وذلك بعد سنة من حبسه، لأن الحبس غياب، وهم يقولون بالتفريق للغيبة مع عدم العذر، كما يقولون بها مع العذر على سواء" انتهى.
وقال ابن تيمية –رحمه الله- في "الفتاوى الكبرى": "وَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلزَّوْجَةِ بِتَرْكِ الْوَطْءِ مُقْتَضٍ لِلْفَسْخِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَصْدٍ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِ، كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى...، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ فِي امْرَأَةِ الْأَسِيرِ وَالْمَحْبُوسِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ تَعَذَّرَ انْتِفَاعُ امْرَأَتِهِ بِهِ إذَا طَلَبَتْ فُرْقَتَهُ كَالْقَوْلِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ ".
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية والعشرين المنعقدة بمكة المكرمة لعام (1434ه): "للزوجة إذا تضررت من مدة انتظار زوجها المفقود أن ترفع أمرها للقاضي, للتفريق بينها وبين زوجها المفقود للضرر، وفق الشروط الشرعية لهذا النوع من التفريق".
وفي حال فسخ نكاح المرأة من زوجها المفقود أو الغائب قبل الدخول فعلى المرأة أن تردَّ المهر لذويه كاملاً، بخلاف ما لو كان الفسخ بعد الدخول فهو من حق المرأة .
قال ابن قدامة –رحمه الله- في "المغني" عن الفسخ: "أَنَّ الْفَسْخَ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ، فَلَا يَسْقُطُ... وَيَجِبُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى".
سابعًا: إن ظهر المفقود حياً بعد أن حكم القاضي الشرعي بوفاته، وقد تزوجت امرأته دون فسخ النكاح الأول، فإنه يكون أحق بها من زوجها الثاني، وفي هذه الحال يفسخ النكاح الثاني وتعتد المرأة منه (بحيضة واحدة) ثم ترجع لزوجها الأول.
وإن رغب عنها وأقر هذا الزواج الثاني، فله ذلك، ومن حقه استرداد المهر الذي دفعه لها من زوجها الثاني.
وأي الخيارين اختار، فليس له الرجوع عنه.
روى ابن أبي شيبة في المصنف عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ –رضي الله عنهما- قَالاَ: "إِنْ جَاءَ زَوْجُهَا خُيِّرَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ الصَّدَاقِ الأَوَّلِ".
وقال ابن قدامة في "المغني": "وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا، خُيِّرَ الْأَوَّلُ بَيْنَ أَخْذِهَا، فَتَكُونُ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ أَخْذِ صَدَاقِهَا، وَتَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي...؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ".
قال الخطيب الشربيني -رحمه الله- في "مغني المحتاج": " لكن لا يطؤها حتى تعتد من الثاني".
وتفادياً لحدوث مشاكل من قضايا الغيبة والمفقود، فالأولى للمرأة التي طال غياب زوجها وانقطعت أخباره وتضررت بذلك: أن ترفع أمرها للقاضي ليحكم بفسخ النكاح ثم تعتد وتتزوج.
فإنَّ فسخ النكاح يختلف عن الحكم بوفاة الزوج، وبالتالي فلا أثر لعودة زوجها الأول على نكاحها الثاني؛ لأن النكاح الأول مفسوخ بحكم القاضي الشرعي.
ثامنًا: فيما يتعلق بأموال المفقود العائد: إن لم يصدر حكم من القاضي بموته وقسَّم الورثة ماله ثم ظهرت حياته: فإنها تعاد إليه، ومن أنفق شيئاً منها ضمنه له؛ لأنه تصرَّف بملك غيره دون وجه حق، ولا يستثنى من ذلك إلا النفقات الشرعية الواجبة في ماله.
أما إن عاد المفقود بعد حكم القاضي بوفاته، فإنه يسترد الأموال المتبقية بيد ورثته فقط، وأما الأموال التي أنفقت، فلا ضمان فيها؛ لأنها أُنفقت بناء على حكم قضائي، وبمقتضاه صار مأذوناً لهم بهذا التصرف، وما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون.
نسأل الله تعالى أن يفكَّ أسر المأسورين، ويرحم الشهداء والأموات، ويرحم الضعفاء.
والحمد لله رب العالمين