انتشرت مؤخرا رسائل نسبت لبعض أهل العلم – للشيخ ابن عثيمين رحمه الله خاصة - في عدم جواز قول ( الله يخليك ) وأنها بمعنى ( الله يتركك ) لأن التخلية معناها الترك؟
هذا السؤال يحوي عدة مواضيع:
الأول: هل ثبت هذا القول عن الشيخ ابن عثيمين؟
الظاهر أن هذا القول لا يثبت عن الشيخ رحمه الله رحمة واسعة ولم نجده في كتابه المناهي اللفظية، ومما يزيد من ركاكة النسبة قولهم في نسبتها: قال رجل للشيخ ابن عثيمين، فكيف يقول في كتابه رحمه الله قال رجل للشيخ ابن عثيمين، ومثل هذه الانتحالات كثيرة وقد يكون وراءها من وراءها عن قصد وتبييت نية، خاصة أنها شاعت في الآونة عن كثير من المشايخ، وقد قال ابن بطة في كتابه إبطال الحيل: " وربما أفتى أحدهم بالفتوى ما سبقه إليها أحد ، لم توجد في كتاب مسطور ولا عن إمام مذكور ، ولا يحتشم أن يقول : هذا قول فلان ، ومذهب فلان ، تخرصا وتأثما " اهـ
الثاني: هل معنى التخلية محصور في الترك؟
وللتخلية والتخلي في العربيـة معان ، وأصلها من الخلو ، وهو : الفراغ ، فمن معانـيها :
1- الترك ، كما ذكر المانع ، ولا يلزم منه الإبعاد كما يأتي ، قال ابن المعتز العباسي ـ خليفة اليوم والليلة ! ـ في أبياته المشهورة :
خـل الذنـوب صغـيرهـا..........وكـبـيرهــا ذاك الـتــقى
بمعنى اترك الذنوب
2- وقريب منه : الإرسال ، والإطلاق ، والإعتاق ، والتسريح ، ومنه قوله تعالى : (( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم )) ، والخليـة : الناقة تطلق من عقالها ، وأنشد :
مـا لـي أراك مـخــلـيـا ..........أين السـلاسـل والقـيـود
أي متروكا أو معتقا أو مسرحا
3- ومنها : الإخلاء والتفريغ ، وله اتصال بالمعنـيـين السابقين ، ومنه يقال كناية : ( خلى فلان مكانه ) إذا مات ، قال دريـد بن الصمة :
فإن يـك عبد الله خـلى مكانـه..........فما كان وقـافا ولا طائش اليد
ومنه في آداب السلوك وفي كثير من الأحكام ـ ( التخلية ) التي تسبق ( التحلية ) ، وهي : تفريغ الموضع مما يكدره ؛ تهيئـة له ، لتحليـته بالخير كي يبقى وينمو ويزكو ، ويقولون كناية : ( لا أخلى الله مكانك ) ؛ يدعون له بالبقاء وطول العمر ، ويقال : تخلى فلان للعبادة أي : تفرغ ، وهو تفعل من الخلو .
4- ومنها : الاصطفاء ، يقال : تخلى خليـة ، أي : اتخذها لنفسه .
5- ومنها : البراءة ، يقال : ( تخلى عن كذا ) ، و ( تخلى منه ) بمعنى : تبرأ
وكلها معان متقاربة ؛ لاجتماعها في الأصل ، وأقربها إلى مراد الناس بهذه الدعوة هو الأول والثاني ، ولكن لا يعني معنى الترك فيه أن يكون تركا من النصرة والعون والرحمة ـ كما فهمه المانع ـ ، ولكن هو تركه وإمهاله ، والنسأ في أجله ، فيخليك ولا يخلـي مكانك في الدنيا ، ويمتعنا بك ؛ ولذا فزيادة ( يبعدك ) التي ذكرها المانع من كيسه إقحام ، لا محل له هنا .
ومن لطيف ما يفهم به معنى هذا : الدعاء الآخر الذي تقوله العامة إذا ما دعوا على أحد بالموت ، يقولون : ( الله يأخذك ) ، فهذا مقابل لذاك ومعاكس له ، ( الله يخليك ) أي : يتركك لنا ويبقيك ، ويرسلك ويطلقك من أخذه ، و ( لا يأخذك ) !
ويصح فيه ـ وإن لم يـرد ـ المعاني الأخرى ، فيصح المعنى الخامس : البراءة ، بمعنى البراءة من العيوب ، كما يقال : ( خلاك ذم ) ، أي : سقط عنك ما تذم به ، وكذا السلامة من الشرور ، وهنا موضع ذكر ( الإبعاد ) ، فهو دلالة تركيبيـة للتخلية مع حرف ( عن ) ، يقال : خل عنك كذا ، أي : أبعده ، فـ ( الله يخليك ) بهذا المعنى أي : يبعدك عن الشرور ، لا أنه يبعدك عنه وعن رحمته ونصرته ، وكذا يصح المعنى الثالث : التفريغ ، بمعنى : تفريغ البال من الهموم ونحوها ، ولكن ـ كما سبق ـ مراد العامة الدعاء بطول العمر .
فلهذا التعبير في العربيـة وجه أي وجه، ومن الخطأ أن يأخذ الواحد كتابا من كتب اللغة فيمرر عينيه بلا تثبـت، يلقط الكلمة والكلمتـين ، ثم يخرج للناس يقول : هذا معناه كذا ؛ فلا يجوز، بل يجب أن يبحث ويحقق ويتثبت ويراجع المسألة مرارا وتكرارا ويعرضها على أهل العلم ليكون على بينة في أمره.
وليس هذا – وإن كان فيه نوع اشتراك – من جنس ما يمتنع النطق به من الألفاظ لأنها توهم معنيين، فإن العبارة صحيحة المعنى في الأداء وسياق الذكر.
وليس أيضا من قبيل تصحيح اللفظ الخطأ بصحة نية قائليه، كما يفعل البعض في بعض العبارات الشائعة الخاطئة فيقول: يجوز استعمالها لأن العامة تعني بها كذا، فإن نية القائل لا تصحح معنى العبارة، نعم قد ترفع المؤاخذة عن قائلها، لكنها لا تصحح ما هو خطأ في نفسه، وفرق بين التصحيح وبين إسقاط المؤاخذة.
هل يجوز الدعاء بطول العمر بأي صيغة كانت؟
ورد في صحيح مسلم من حديث أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: اللهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» .
وعليه فقد كره بعض أهل العلم الدعاء بطول العمر مستدلين بهذا الحديث.
إلا أن الترغيب بطول العمر والدعاء فيه ورد في عدة أحاديث أخر، منها ما رواه البخاري عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ، فَقَالَ: «مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ» فَسَكَتَ القَوْمُ، قَالَ: «ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ» فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ، فَأَخَذَ الخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا، وَقَالَ: «أَبْلِي وَأَخْلِقِي» وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ، فَقَالَ: «يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاهْ» وَسَنَاهْ بِالحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ. والدعاء ( أبلي وأخلقي ) دعاء يراد به طول العمر.
ومنها ما ترجم به البخاري في صحيحه (بَابُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ بِطُولِ العُمُرِ، وَبِكَثْرَةِ مَالِهِ ) وأخرج بعدها حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» فلفظة طول العمر مما لم يصح عند البخاري رحمه الله فترجم لها في الباب وهذه عادته في صحيحه، وقد أخرج لفظة الدعاء بطول العمر في كتابه الأدب المفرد، وربما كانت هذه الترجمة إشارة منه رحمه الله إلى جواز مثل هذا الدعاء.
وطول العمر في العموم مطلوب مرغوب في الشرع، والدليل على ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا»، فبين في هذا الحديث أن طول عمر المؤمن إنما هو خير له، فإن موته يعني انقطاع عمله، والأعمار في العموم مساحات الأعمال، وكلما زادت الأعمار زادت الأعمال، والأصل أن المؤمنين لا يزدادون في طول أعمارهم إلا من الخير.
وأما حديث أم حبيبة فالظاهر أن المنع فيه ليس من الدعاء بطول العمر ، فقد وجهها صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء بالنجاة من عذاب القبر وعذاب النار وهذا أيضا مقسوم مكتوب، فتبين من هذا الوجه أن النهي إنما هو من باب الموعظة والتذكير لأم المؤمنين رضي الله عنها وللأمة من بعدها بالآخرة وبكونها باقية وبتفضيلها على الدنيا كونها مما ينقطع عاجلا أم آجلا، فإنها لم تدع بطول العمر لهم مباشرة ولكن دعت بأن يمتعها بهم، وهذا يقتضي بلا شك طول أعمارهم إلا أن ظاهر الكلام يشير إلى التمتع بوجودهم الذي لا بد أن ينتهي على كل حال كما نبه إليه بأبي هو وأمي.
فالذي يظهر في المسألة بأن الأصل في الدعاء بطول العمر جائز لا حرج فيه، بل إن مثل هذا الأمر قد يكون حسنا ويؤجر عليه صاحبه إن كان للوالدين مثلا لعموم قول الله تعالى ( وقل لهما قولا كريما )، وربما كان إلا أن يعترضه ناقل فينقله عن الأصل لعلة في حال الشخص المدعو له بطول العمر من عداء للدين وأهله، وهذا شأن آخر.
هذا ما ظهر لي فإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان ولا يحل لأحد ظهر له خطأ قولي بدليل أن يقول بمقالتي وإن أصبت من توفيق الله ورحمته.