هل ثبت عن الإمام البخاري تأويل الضحك في صحيحه؟
بحثٌ في تحقيق نسبة الروايات والألفاظ للمصنّفين.
أولًا: مقدمات لا بد منها لتحديد محل النزاع:
١- اتصلت لنا الرواية بصحيح البخاري من طرق كثيرة عنه، كلها روت الصحيح عن البخاري واتفقت في الجملة على ما فيه، وأشهرهم أربعة:
– رواية حماد بن شاكر، وقد روى عنه الصحيح إلا من آخره رواها بالإجازة.
– وأبي طلحة منصور بن محمد البزدوي، وهو آخر من حدّث بالصحيح عن البخاري على التحقيق كما قال الذهبي وابن ماكولا وابن نقطة.
– وإبراهيم بن معقل النسفي، وفاته منه قطعة في آخره رواها بالإجازة.
– ومحمد بن يوسف الفربري.
٢- أتقن هذه الروايات وأتمها هي رواية الفربري -وهو راوية الإمام البخاري فقد روى عنه الصحيح كما روى عنه خلق أفعال العباد وغير ذلك- وامتازت روايته عن غيره بعدة امتيازات، منها:
– أنه سمع الصحيح من البخاري ثلاث مرات، آخرها في بخارى سنة 252، أي قبل وفاة البخاري بأربع سنوات.
– ومنها: أن أصل البخاري كان عنده كما قال ابن رُشيد وأيّده الحافظ ابن حجر.
– ومنها: أن الجامع الصحيح جميعه عن الفربري بالسماع، وعند غيره كابن معقل وابن شاكر، بعضه بسماع وبعضه بإجازة.
٣- اتصلت لنا الرواية عن الفِرَبْري من طرق كثيرة عنه، وأشهرها خمسة:
– رواية أبي إسحاق المستملي.
– ورواية أبي محمد الحمّويي.
– ورواية أبي الهيثم الكشميهني.
– ورواية أبي زيد المروزي.
– ورواية ابن السكن التي يرويها ابن خير وأبو علي الجيّاني.
ثم رواه عن كل واحد من هؤلاء جماعات.
٤- نسخ الصحيح الموجودة بين أيدينا اليوم ترجع إلى نسخة الفربري، وهي النسخة التي اعتمد عليها الحافظ ابن حجر في ضبط الصحيح وأقام عليها شرحه للصحيح، وهي من رواية أبي ذر الهروي عن شيوخه الثلاثة: المستملي والحمّويي والكشميهني، عن الفربري، به.
ثانيًا: مناقشة الخطّابي في نقل تأويل الضحك عن البخاري:
١- اعتمد الخطابي في روايته للصحيح على رواية ابن معقل النسفي إلى كتاب التفسير، وأكمل الفوت عن الفربري من رواية محمد بن خالد المطوعي به. وقد نص الخطابي على ذلك في مقدمة شرحه.
٢- كما وقعت له رواية ابن معقل بفوت فكذلك وقعت له رواية الفربري، فلم يسمعها تامة من محمد بن خالد المطوعي، بل كان يروي بعضها من نسخٍ وقعت له عن أصحابه عن الفربري به، أي: أن للخطابي رواية ونسخة عن الفربري، وهذا أيضًا قد نصّ عليه الخطابي.
٣- لم يفصِل الخطابي القدر الذي سمعه من رواية الفربري عن القدر الذي وجده من نسخةٍ عنه، وهذا يوجب التوقف فيما يرويه عن الفربري خاصة؛ حتى يُعارض بالروايات الأخرى الثابتة من طريق أصحابه عنه.
٤- قد يقال: ما الفرق بين روايته عن الفربري والنسخة التي يرويها عنه؛ فما زال أهل العلم يعتمدون نسخ الرواة ويفاضلون بينها ويقبلون زيادات بعضها على بعض؟
فأقول: رواة الكتب يتوسعون في التصرف بالنسخ ما لا يصنعونه في الرواية المباشرة، فيلحقون بها –أي: بالنسخ- إلحاقات، وتفسيرات، وحواشي وفوائد، وتلفيقات من عدة نسخ، ويكثر فيها الفوت والإسقاط، ويجري فيها التقديم والتأخير والحذف، وغير ذلك مما يغيب فيه التحفظ على النص الأصلي ويقع به التساهل والتسامح، وسبب ذلك كله: عدم مباشرة السماع والرواية والمشافهة، والاستناد إلى الوجادات التي لا يُعرف لها أسانيد حتى! كما في إحدى فرعي النسخة الصغانية التي وردت فيها هذه الزيادة!
لذلك كان أهل العلم حذرين في التعامل مع النسخ لاسيما المتأخرة منها؛ فلا هم يقبلون كل ما فيها بإطلاق ولا هم يهدرونها جملة، وإنما يتوسطون في التعامل معها ويحكمون عليها، أو على زياداتها وتفرداتها، بحسب ما يصحبها من قرائن ويحتف بها من ملابسات، ومن ذلك: مدى نسبة موافقتها لسائر الروايات والنسخ الأخرى أو مخالفتها لها أو إغرابها عنها، مع قرائن أخرى تنضم إليها من حيث جلالة ناسخها، وتاريخ نسخها، ومقابلتها على النسخ الأخرى، وغير ذلك من القرائن المعتبرة في القبول أو الرد.
٥- نظرنا في زيادة الخطابي هذه فوجدناها:
أ- منقولة عن نسخة وليست مروية بالسماع عن البخاري، بدليل: أنها لم ترد في مرويات تسعة من أصحاب الفربري المتقنين الذين سمعوا منه مباشرة، وثلاثة من أصحاب البخاري الأولين الذين سمعوا منه مباشرة (ابن معقل، وحماد بن شاكر، ومنصور البزدوي)، وهؤلاء هم رواة الصحيح الذين تفرغوا لسماعه وجمعه وعنهم اشتهر الصحيح وانتشر. واجتماع هذا العدد الكثير على ترك هذه الزيادة، من أصحاب الطبقة الأولى والثانية،كافية في ثبوت شذوذها روايةً.
زد على ذلك: لو كانت هذه الزيادة روايةً لا نسخة؛ فإنّها معلولة بتفرُّد محمد بن خالد المطوعي بها دون سائر الرواة المشهورين المتقنين من أصحاب الفربري، والمطوعي غير مشهور بالرواية عن الفربري ولم يُعرف بملازمته الطويلة ولا الخبرة التامة بحديثه.
ويؤكد ذلك: أن روايته الصحيح عن الفربري –على وجه الخصوص- لم يتداولها أهل الحديث ومَن لهم عناية بجمع مرويات صحيح البخاري، بل لم يعرفها أحدٌ قبل الخطابي وقد تفرد بها عنه ولولاه لما سمع بروايته أحدٌ، والخطابي رواها عنه بفوت أيضًا ولم يسمعها عنه تامًا.
وهذا كله على سبيل الافتراض والتنزُّل؛ وإلا فالمرجح أن هذه الزيادة نقلها الخطابي عن إحدى نسخ الفربري –وهي غير النسخة المعتمدة التي انتسخها من أصل خط البخاري واشتهرت عند أصحابه- ولم تقع له سماعًا من المطوعي.
ب- منافاة هذه الزيادة لمنهج البخاري في سائر كتبه على وجه العموم وفي كتابه الجامع الصحيح على وجه الخصوص، فهو لا يتعرض لمعاني الصفات، بل إذا تكلم نقل عن غيره من السلف كما نقل تفسير مجاهد وأبي العالية للاستواء، أو ينقل عن بعض اللغويين كما نقل عن معمر بن مثنى.
ت- ورد لفظ «الضحك» في سياقات أتم من هذا السياق في الجامع الصحيح عدة مرات، فلم يتعرض له البخاري بتفسير.
ث- غرابة معنى هذا التفسير في هذا السياق، حتى استغربه ابن التين، ورجح الخطابي خلافه فقال: «وتأويله على معنى الرضا لفعلهما = أقرب وأشبه»، فلم يرتض تفسير البخاري للضحك بالرحمة وصوّب ما هو الأشبه بالسياق وهو الرضا. والبخاري إمام في اللغة ولا يخفى عليه مجافاة هذا التفسير للسياق الذي ورد فيه.
ج- اجتمع في هذه الزيادة ثلاث قرائن توجب الحكم بضعفها وشذوذها: تفرد بعض النسخ المتأخرة بها، ومنافاتها لطريقة البخاري في الصحيح من عدم التعرض لمعاني الصفات، وعدم شهرتها وتداولها بين أهل الحديث.
ثانيًا: مناقشة الخطّابي في نقل تأويل الضحك عن البخاري:
١- اعتمد الخطابي في روايته للصحيح على رواية ابن معقل النسفي إلى كتاب التفسير، وأكمل الفوت عن الفربري من رواية محمد بن خالد المطوعي به. وقد نص الخطابي على ذلك في مقدمة شرحه.
٢- كما وقعت له رواية ابن معقل بفوت فكذلك وقعت له رواية الفربري، فلم يسمعها تامة من محمد بن خالد المطوعي، بل كان يروي بعضها من نسخٍ وقعت له عن أصحابه عن الفربري به، أي: أن للخطابي رواية ونسخة عن الفربري، وهذا أيضًا قد نصّ عليه الخطابي.
٣- لم يفصِل الخطابي القدر الذي سمعه من رواية الفربري عن القدر الذي وجده من نسخةٍ عنه، وهذا يوجب التوقف فيما يرويه عن الفربري خاصة؛ حتى يُعارض بالروايات الأخرى الثابتة من طريق أصحابه عنه.
٤- قد يقال: ما الفرق بين روايته عن الفربري والنسخة التي يرويها عنه؛ فما زال أهل العلم يعتمدون نسخ الرواة ويفاضلون بينها ويقبلون زيادات بعضها على بعض؟
فأقول: رواة الكتب يتوسعون في التصرف بالنسخ ما لا يصنعونه في الرواية المباشرة، فيلحقون بها –أي: بالنسخ- إلحاقات، وتفسيرات، وحواشي وفوائد، وتلفيقات من عدة نسخ، ويكثر فيها الفوت والإسقاط، ويجري فيها التقديم والتأخير والحذف، وغير ذلك مما يغيب فيه التحفظ على النص الأصلي ويقع به التساهل والتسامح، وسبب ذلك كله: عدم مباشرة السماع والرواية والمشافهة، والاستناد إلى الوجادات التي لا يُعرف لها أسانيد حتى! كما في إحدى فرعي النسخة الصغانية التي وردت فيها هذه الزيادة!
لذلك كان أهل العلم حذرين في التعامل مع النسخ لاسيما المتأخرة منها؛ فلا هم يقبلون كل ما فيها بإطلاق ولا هم يهدرونها جملة، وإنما يتوسطون في التعامل معها ويحكمون عليها، أو على زياداتها وتفرداتها، بحسب ما يصحبها من قرائن ويحتف بها من ملابسات، ومن ذلك: مدى نسبة موافقتها لسائر الروايات والنسخ الأخرى أو مخالفتها لها أو إغرابها عنها، مع قرائن أخرى تنضم إليها من حيث جلالة ناسخها، وتاريخ نسخها، ومقابلتها على النسخ الأخرى، وغير ذلك من القرائن المعتبرة في القبول أو الرد.
٥- نظرنا في زيادة الخطابي هذه فوجدناها:
أ- منقولة عن نسخة وليست مروية بالسماع عن البخاري، بدليل: أنها لم ترد في مرويات تسعة من أصحاب الفربري المتقنين الذين سمعوا منه مباشرة، وثلاثة من أصحاب البخاري الأولين الذين سمعوا منه مباشرة (ابن معقل، وحماد بن شاكر، ومنصور البزدوي)، وهؤلاء هم رواة الصحيح الذين تفرغوا لسماعه وجمعه وعنهم اشتهر الصحيح وانتشر. واجتماع هذا العدد الكثير على ترك هذه الزيادة، من أصحاب الطبقة الأولى والثانية،كافية في ثبوت شذوذها روايةً.
زد على ذلك: لو كانت هذه الزيادة روايةً لا نسخة؛ فإنّها معلولة بتفرُّد محمد بن خالد المطوعي بها دون سائر الرواة المشهورين المتقنين من أصحاب الفربري، والمطوعي غير مشهور بالرواية عن الفربري ولم يُعرف بملازمته الطويلة ولا الخبرة التامة بحديثه.
ويؤكد ذلك: أن روايته الصحيح عن الفربري –على وجه الخصوص- لم يتداولها أهل الحديث ومَن لهم عناية بجمع مرويات صحيح البخاري، بل لم يعرفها أحدٌ قبل الخطابي وقد تفرد بها عنه ولولاه لما سمع بروايته أحدٌ، والخطابي رواها عنه بفوت أيضًا ولم يسمعها عنه تامًا.
وهذا كله على سبيل الافتراض والتنزُّل؛ وإلا فالمرجح أن هذه الزيادة نقلها الخطابي عن إحدى نسخ الفربري –وهي غير النسخة المعتمدة التي انتسخها من أصل خط البخاري واشتهرت عند أصحابه- ولم تقع له سماعًا من المطوعي.
ب- منافاة هذه الزيادة لمنهج البخاري في سائر كتبه على وجه العموم وفي كتابه الجامع الصحيح على وجه الخصوص، فهو لا يتعرض لمعاني الصفات، بل إذا تكلم نقل عن غيره من السلف كما نقل تفسير مجاهد وأبي العالية للاستواء، أو ينقل عن بعض اللغويين كما نقل عن معمر بن مثنى.
ت- ورد لفظ «الضحك» في سياقات أتم من هذا السياق في الجامع الصحيح عدة مرات، فلم يتعرض له البخاري بتفسير.
ث- غرابة معنى هذا التفسير في هذا السياق، حتى استغربه ابن التين، ورجح الخطابي خلافه فقال: «وتأويله على معنى الرضا لفعلهما = أقرب وأشبه»، فلم يرتض تفسير البخاري للضحك بالرحمة وصوّب ما هو الأشبه بالسياق وهو الرضا. والبخاري إمام في اللغة ولا يخفى عليه مجافاة هذا التفسير للسياق الذي ورد فيه.
ج- اجتمع في هذه الزيادة ثلاث قرائن توجب الحكم بضعفها وشذوذها: تفرد بعض النسخ المتأخرة بها، ومنافاتها لطريقة البخاري في الصحيح من عدم التعرض لمعاني الصفات، وعدم شهرتها وتداولها بين أهل الحديث.
٥- وأيًا كان حال النسخة المضمنة في الصغانية، فليست هي النسخة المعتمدة، لا عن البخاري ولا عن الفربري، وقد وقعت فيها مواضع مقطوع بعدم نسبتها للبخاري، ومنها: تفسير الكلمات التي تبدأ بقوله: (يعني)، وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى ذلك في الفتح، ومنها: تفسيره السكينة بالملائكة، وهو من تفسيره وليس من تفسير البخاري.
وأكتفي بهذا القدر، والحمد لله رب العالمين.