مشروع العلامة الألباني تقسيم السنن إلى صحيح وضعيف، تفاوت الناس في تلقيه إلى طرفين ووسط، كعادتهم في تلقي كل جديد.
والذي نرتضيه صوابًا وحقًا، بعد ممارسة طويلة مع تراث الشيخ – رحمه الله ورضي عنه -: أنه لم يصب في مشروعه هذا، وصنع خلاف الأولى؛ وذلك لعدة أسباب:
١- أن الشيخ نحى في هذا التقسيم منحًى حديثيًا صرفًا، وتعامل مع كتب السنن تعاملًا نقديًا من زاوية الإسناد والرواية فحسب، وكأن هذه الكتب صُنفت لخصوص أهل الصنعة ككتب العلل مثلًا. وليس الأمر كذلك، فكتب السنن صنفها أصحابها لعموم المسلمين لغرض العمل بهذه السنن، والتعبّد بما فيها، مع علمهم بوجود هذه الضعاف، بل هم أنفسهم بينوا عللها إما تنصيصًا أو إشارة، ولم يكن ليعجزهم ــ وهم الأئمة النقادـ تمييز صحيحها من ضعيفها لو أرادوا تجريد الصحيح وحده، وتنقيته من الضعاف.
٢- أنه لم يدقق في مناهج الأئمة في التصنيف، فليس كل أحاديث “كتب السنن” قصد أصحابها الاحتحاج بها:
– فمنها: ما خرّجوه احتجاجًا.
– ومنها: ما خرّجوه استشهادًا.
– ومنها: ما خرّجوه بقصد الإشارة إلى علته.
– ومنها: ما خرّجوه لأنه أصح ما في الباب وإن لم يكن صحيحًا في نفسه.
وذلك أنَّ لكل واحد من أصحاب هذه المصنفات الحديثية غرضًا في تصنيفه:
– فمنها: ما قصد مصنِّفُها جمع غرائب أحاديث الأحكام، كسنن ابن ماجه، ففصل هذه الغرائب -وغالبها من الضعاف التي تفرد بروايتها ابن ماجه عن الكتب الستة- عن سائر أحاديث الكتاب؛ خلاف قصد المؤلف.
– ومنها: ما قصد مصنِّفُها جمع مشاهير أحاديث الأحكام، ولو كان فيها نوع ضعف ولين، كسنن أبي داود.
– ومنها: ما قصد مصنِّفُها جمع ما عليه العمل ولو كان في إسناده ضعفًا أو علة، فيعتضد بالعمل، كجامع الترمذي.
– ومنها: ما قصد مصنِّفُها نقد أحاديث الأحكام وجمع طرقها وبيان عللها وتمييز المحفوظ منها من المعلول، كالسنن الكبرى للنسائي، وهو من أجلِّ هذه الكتب وأعظمها في الصناعة النقدية، ومؤلفه جاري في مضمار البخاري وأبي زرعة ومن في مرتبتهما، ومختصره المعروف بسنن النسائي هو خلاصة اختيارات النسائي النقدية.
٣- أنه أغفل مقاصد الأئمة الفقهية من إيداع بعض الأخبار الضعيفة -غير المنكرة والمنجبرة غالبًا- في كتبهم، وهو الاحتجاج بها -وإن كان فيها نوع ضعف- في الفروع والعمليات، وتقديمها على الرأي والقياس إن لم يكن في الباب ما يدفعها، وذلك أن دائرة الاحتجاج بالأخبار عند الأئمة المتقدمين أوسع من دائرة الصحة، فليس كل ضعيف عندهم يُطرّح، كما ليس كل ما صح عندهم عملوا به؛ لاعتبارات أصولية معروفة في مظانها.
يوضحه:
٤- أن هذه الكتب كتبٌ حديثية وفقهية في آن، وأصحابها محدثون فقهاء، وغرضهم من تصنيفها حديثيٌ فقهي، فهي كتب حديثية بما رووها بأسانيدهم وأعقبوها بأحكامهم النقدية تفصيلًا أو إجمالًا، وفقيهة بما رتبوها على الأبواب الفقهية وأردفوا الأحاديث بأقوال واختيارات فقهاء الأمصار، كما صنع الترمذي في جامعه.
ومهما فصلنا بين هذين العلمين؛ فقد أغفلنا مقاصد الأئمة الفقهية من تصنيف كتبهم، وهذا الذي صنعه العلامة الألباني، رحمه الله ورضي عنه.
٥- وأخيرًا؛ هذا المشروع هو ثمرة مسلك الشيخ الفقهي المتأثر بالمدرسة الظاهرية، والتي بنت فقهها على العمل بما صح من الأحاديث فقط، ورد الاحتجاج بالضعاف مطلقًا، وحصر الدليل الشرعي بما صح من الرواية، وإغفال الأدلة الشرعية الأخرى المتفق على الاحتجاج بها عند جماهير الفقهاء.
وهذا الذي سلكه الشيخ مذهبٌ مرجوح لم يُتابع عليه، حتى من الاتجاه السلفي الذي سلك مسلك التمذهب الشرعي المنضبط.
وبعد هذا البيان أقول:
هل في صنيع الألباني تنقص من الأئمة، أو افتيات عليهم، أو إفساد وعبث بكتبهم، كما يقوله من يقوله من خصومه المؤدلجين كسعيد ممدوح وهو من أسوء من تعقب الشيخ؟
الجواب: لا؛ لأن أصول كتب السنن محفوظة منشورة، وعمل العلامة الألباني أقل ما يقال فيه: أنه اجتهادٌ خاطئ، ونيةٌ بالخير حسنة لم يصبها، ورغبةٌ في خدمة كتب الحديث وتنقيتها، سواء أصاب أو لم يصب.
حسنًا:
هل سبق الألباني أحدٌ في مشروعه هذا؟
لم يسبقه في هذه الصورة أحد، ولكن ثمة مشاريع شبيهة أو قريبة، من مشروعه:
١- كاختصارات الصحيحين، فقد حُذفت منها، أو من بعضها، معلّقات الإمام البخاري، وهي مقصودة له، بل معلقاته فيها إشارات دقيقة لإعلال الأخبار، يعرف ذلك من مارس الصحيح.
وأيضًا حذفت الأخبار الموقوفة وأقوال السلف التي يوردها الإمام البخاري في صحيحه؛ مستدلًا بها ومفسرًا ما يورده من الأحاديث.
وكذلك حذفت الأحاديث المكررة التي يوردها البخاري من طرق متنوعة، وهي مقصودة للبخاري جدًا، وفيها إشارات تعليلية تبرز إمامته وتقدمه في الصنعة.
٢- كتب الجمع بين الصحيحين، كجمع الإشبيلي والحميدي، وغيرهما، وبعض هذه الكتب تحذف تبويبات البخاري، وهذا إسقاطٌ لفقه البخاري جملة؛ لأن من المعلوم أن فقه البخاري في تبويباته، وهذا غير حذف المعلقات، والأحاديث المكررة، والأسانيد.
فكان ماذا؟
هل يقال في صنيع هؤلاء العلماء ما قيل في صنيع الألباني؟!
قليلًا من الإنصاف يا قوم ..