حصلت سجالات وردود بيني وبين الشيخ عداب الحمش حول سبب تحايد البخاري لجعفر بن محمد الصادق في صحيحه، مع احتجاجه بمن دونه من الثقات بله من الضعفاء، ولأن أحاديث جعفر مروية بأسانيد احتج بمثلها البخاريُّ في كتابه، فهو على شرطه ويلزمه تخريج حديثه على طريقة الدارقطني في الإلزامات.
وتعجبتُ من ضيق أُفق باحث مثل الشيخ عداب الحمش الذي امتلأ غرورًا وكبرًا وهو يفسِّر صنيع البخاري بتفسيرات طائفية سطحية من موقع مذهبي مؤدلج لا يخفى سخفها على أدنى ممارس لطريقة البخاري في اختيار رواة كتابه عامة، وانتقاء الأسانيد التي توفر فيها بعض الاعتبارات النقدية خاصة:
١- كالعلو، وقد يروي لبعض مَن خفّ ضبطه ويترك أحاديث جماعة أوثق منهم طلبًا للعلو.
٢- والإسناد المسلسل بالسماع، لا سيما الرواة الموصوفين بالتدليس، وقد ينزل بإسناده لهذا الغرض.
٣- والرواة المقدَّمين في شيوخهم، لا سيما الشيوخ المكثرين من الرواية الذين تُجمع أحاديثهم وتدور عليهم أصول الأسانيد الصحيحة، كنافع وقتادة والزهري والأعمش ونحوهم، وقد نزل البخاريُّ مرةً ثلاث درجات ليخرج حديث مالكٍ عن الزهري؛ لأنه من أثبت الناس فيه، مع أنَّ الحديث عنده عن الزهري من غير طريق مالك أعلى بدرجتين!
٤- الإسناد الخالي من الاختلاف، ولو لم يكن مؤثرًا وقادحًا في ثبوته، ما دام عنده إسناد أنظف لم يُختلف فيه، ولو كان رواته أقل حفظًا وإتقانًا.
ونحو ذلك من الاعتبارات التي بنى عليها البخاريُّ طريقته في اختصار كتابه من آلاف الأسانيد التي كانت عنده.
والمتأمل في أحاديث جعفر يجد كثيرًا منها مراسيل ووجادات عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبخاريُّ لا يحتج بهذا النوع من الأسانيد حتى لو عُلم مخرجها ما دام عنده أسانيد مروية بالسماع، بل إنه أعرض عن بعض النسخ الحديثية مع ثبوت اتصالها بالإجازة والمناولة؛ لأنها مروية بغير السماع.
والقليل الذي سمعه جعفر من أبيه – وأكثر أحاديثه عنه- لا يخلو من علل واختلاف الرواة عليه في إسناده، وليس لجعفر حديث عمدة إلا حديث جابر في الحج، وهو مروي عند البخاري بأسانيد أعلى من حديث جعفر تحقق به مقصوده واستغنى به عن غيره.
فتنكُّب البخاري لحديث جعفر لم يكن لانحرافه عنه على ما تخرّص به ابنُ عقيل الحضرمي والغماريون ومقلدوهم وتابعهم عليه عدابُ الحمش، بدليل أنَّ البخاري تنكّب أحاديث جماعة من رؤوس أهل السنة كحمّاد بن سلمة مع أنه أثبت الناس في ثابت البُناني وحُميد الطويل، بل حديث حماد عن ثابت عن أنس من أصح الأحاديث، وترك الاحتجاج ببعض شيوخه الثقات المتصلِّبين في السنة كنُعيم بن حمّاد، مع احتجاجه بأمثال عُبيد الله بن موسى وعَدِي بن ثابت وأمثالهما من غلاة الروفض!
فالمسألة متعلقة بطريقة البخاري في الانتقاء لاعتبارات نقدية لا لنزعات مذهبية.
ثم وجدت الأمر أكبر من عداب الحمش، والقضية أوسع من ترك جعفر وحده؛ لأن إعراض البخاري عن بعض الثقات المتفق على الاحتجاج بهم واحتجاجه بمن دونهم عابه عليه بعضُ حذّاق النقاد كالدارقطني وابن حبان، واحتدّ عليه هذا الأخير وتكلم بكلام فيه جفوة وغلظة.
وجملة الأمر: أن أسس اختيار الرواة عند البخاري خاضعة لمعايير نقدية دقيقة لا علاقة لها بالخصومات العقدية أو الصراعات السياسية أو النزعات المذهبية، وبسط ذلك له موضع آخر.