التواتر والآحاد -6-

١- قضية التواتر والآحاد من العلوم الوافدة إلى كتب مصطلح الحديث وليست من مباحث هذا الفن، وأول من أدخلها فيما أعلم هو الخطيب وتابعه عليه الناس، وللخطيب آراء لا يوافق عليها كما قال ابن رجب، مع فضله وتقدمه في هذا العلم.

٢- وأصل تقسيم الأخبار من حيث هو اصطلاح خاص لأصحاب كل فن لا مشاحة فيه، إذا لم يترتب عليه رد الأخبار الثابتة، وقد سبق الخطيبَ إلى ذلك الشافعيُّ فقسّم الأخبار من حيث ورودها وتعدد أسانيدها إلى: خبر العامة، وخبر الخاصة، وهو يشبه إلى حد كبير ما اصطلح عليه المتكلمون وتابعه عليهم الأصوليون بالمتواتر والآحاد مع الاختلاف في المنطلقات والنتائج، يوضحه:

٣- الاختلاف كبير جدًا بين الشافعي والخطيب من جهة، والمتكلمين والأصوليين من جهة أخرى، فإن هؤلاء رتبوا على هذه القسمة كثيرًا من الانحرافات ورد الأخبار الصحيحة، بينما هو عند الشافعي والخطيب مجرد اصطلاح لضبط أنواع الأخبار من حيث ثبوتها وتمييزها مع وجوب العمل بما صح من غير فرق.

٤- لا يعرف نقاد الحديث الأوائل هذا التقسيم المحدث بمعناه عند المتكلمين، ولم يخوضوا في إفادات الأخبار وتقسيمها إلى قطعي وظني، ولا ميّزوا بين العِلميات والعَمليات، بل كل ما صح عندهم وجب العمل به من غير فرق بين ما تواتر وما قصر عنه حتى لو روي بإسناد واحد، وسواء كان موضوعه في العقائد أو في الأحكام العملية، ومهمتهم الرئيسة هي تمحيص الأخبار ونقدها والتثبت من نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتمييز المقبول منها من المردود.

٥- جرى المصنِّفون في كتب ما يُسمى بالأحاديث المتواترة على هذا الاصطلاح المتأخر، فالمتواتر عندهم ما روي من طرق كثيرة حتى لو كان أكثرها واهية أو مقلوبة! وفي كتاب السيوطي من ذلك غرائب ومصائب! وقد أدرج في كتابه بعض الأخبار التي لم تصح فضلًا أن تكون متواترة!

٦- إفادة الخبر للعلم لا يتوقف على كثرة عدد رواته، بل قد يفيد الخبرُ الواحدُ العلمَ إذا احتفت به بعض القرائن، وفي المقابل قد لا يزيد الخبرَ كثرةُ طرقه إلا وهاءً، وهذا يدل على ضعف ربط إفادة العلم بالتواتر، وقد تفطن لذلك بعضُ المتأخرين ونصره ابنُ حجر في النزهة.

٧- وكما لا يتوقف إفادة العلم على تواتر الخبر، بل قد تحصل الإفادةُ بالعلم بخبرٍ واحد، فكذلك يحصل العلم بالخبر لبعض الناس دون بعض، ويتفاوت الناس في هذا تفاوتًا كثيرًا بحسب ما عند كل واحد من المعرفة بالأسانيد والرواة وتمييز الصحيح من الضعيف، فإفادة الخبر للعلم أو الظن أمر نسبي وليست قضية موضوعية.

٨- وأخيرًا: لا اعتراض على مبدأ تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد إذا كان الغرض ضبط الأسانيد وتمييز معالجة الأخبار؛ لأنه ما من شك أن الخبر كلما تعددت طرقه وكثرت أسانيده كان أثبت وأسلم من الخطأ، بشرط أن تكون الأسانيد صحيحة سالمة من القلب والسرقة وأوهام الرواة وتصحيفات النسّاخ أو المحققين، بعكس الخبر الذي لا يرويه إلا واحد أو عدد قليل لا تحصل الطمأنينة بخبرهم مجردًا.

 

Scroll to Top